موقع أدونيس في حركة الشعر العربي الحديث ونظريتها--------- منقول
لا يمكن فهم موقع أدونيس في تطور الشعر العربي الحديث في القرن العشرين بمعزل عن فهم تطوره الشعري نفسه, إذ يكاد هذا التطور في بعض وجوهه أن يكون تطورا لذلك الشعر برمته, فما من شاعر كان تنظيره لتجربته الشعرية نفسها تنظيرا تكوينيا تأسيسيا لحساسيات شعرية حديثة بأكملها مثل أدونيس. ولقد تكون وعي أدونيس الشاب الثقافي-الشعري في مرحلة من أخطر مراحل تطور الشعر العربي في القرن العشرين, وهي مرحلة ما سمي في النصف الثاني من الأربعينيات بالشعر الحر الذي أدخل تعديلا جزئيا على البنية الشعرية العربية لكنه كان تعديلا جوهريا وحاسما , وقد استمد جوهريته من رهاناته المفتوحة التي سمحت بتعميقه وتجاوزه. كانت طريقة الشعر الحر ثمرة نوعية للتجارب التحديثية أو العصرية التي تمت في النصف الأول من القرن العشرين بوجوهها الرومانتيكية والوجدانية والرمزية والبرناسية وحتى السوريالية المحدودة. وقد نهضت هذه التجارب في إطار ما سمي منذ مطالع القرن العشرين بالاستقطاب ما بين <<الشعراء المحافظين والشعراء العصريين>>, والذي كان وجها ثقافيا -شعريا من وجوه استقطاب أشمل ما بين القديم والجديد. ولقد هزت هذه التجارب النموذج الشعري العربي الكلاسيكي الضابط لأصول القصيدة العربية في نظرية عمود الشعر, وأطلقت قلقا نظريا وإبداعيا مركبا نزع القداسة عنه, إلا أن تقويضه كنموذج معرفي أو أصولي تشكل أساسا في سياق تشكل النموذج الأصولي العربي أو علم الأصول في مجالات الفقه والكلام واللغة والبلاغة والشعر قد ارتبط على نحو محدد بأدونيس, فقد كان أدونيس أول من وضع إعادة النظر بالنموذج الشعري الكلاسيكي في سياق أوسع هو إعادة النظر بالنموذج الأصولي الذي يضبط أصول التفكير العربي نفسه. ومن هنا اكتسبت قضية تحويل نظرية عمود الشعر لأول مرة مع أدونيس مضمونا إبيستمولوجيا (معرفيا ), وحاول أن يضطلع في مجال تحديد مفهوم الشعر الحديث بنوع من دور الإبيستمولوجي أو الأصولي الذي اضطلع به واضعو نظرية عمود الشعر العربية.
***
يعود ظهور أدونيس الشاب لأول مرة إلى القصائد التي نشرها في أواخر الأربعينيات في مجلة <<القيثارة>> التي كان يصدرها الشاعر السوري كمال فوزي الشرابي في مدينة اللاذقية على الساحل السوري. وقد استقبلت هذه القصائد يومئذ في بعض الأوساط الشعرية التحديثية المحلية التي تفكر بالشعر على طريقة الشباب الرومانتيكية المشوبة بالرمزية بوصفها قصائد <<موغلة في الرمزية>>(1). غير أن الحساسية الرمزية في قصائد أدونيس الشاب لم تكن وليدة الحساسية الرمزية الشائعة نسبيا في الحقل الثقافي-الشعري العربي التحديثي في الأربعينيات بقدر ما كانت مستمدة عفويا من جذوره النبوية الأولى في الطريقة الصوفية الجنبلانية (النصيرية أو العلوية) التي يلتقي فهمها الهيرمينوتيقي (التأويلي) للرمز المقدس في بعض وجوهه مع المفهوم الرمزي للرمز الديناميكي. إذ نشأ أدونيس في بيت ملائكي صوفي على تلك الطريقة, التي تبلورت كطريقة شيعية مستقلة عن المجال الشيعي العام المعارض لسلطة الخلافة السنية المركزية, في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي, إبان أزمة الإمامة الشيعية الناتجة عن غياب الإمام الشيعي الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري <<المهدي المنتظر>>, ودخوله فيما يسمى شيعيا ب-<<عصر الغيبة الكبرى>>. وقد شكلت في إطار التمأسس المذهبي الإسلامي العام في فرق مذهبية نوعا من طريقة هرطقية إسرارية أو باطنية خاصة تتخطى تفسير ظاهر النص القرآني إلى تأويله باطنيا في ضوء منهج عرفاني يستمد جذوره من الأفلوطينية المحدثة. كانت نظرية هذه الطريقة في المعرفة الإلهية تتخطى نظريتي الاتحاد والحلول الصوفيتين معا , وتتبنى نظرية التجلي, التي تتلخص في أن العلاقة ما بين المعنى (الله) والصورة (المرئية البشرية التي يظهر فيها) هي علاقة تجل , لا تكون فيه الصورة (وهي الع رض الزماني الذي يتجلى فيه المعنى بصورة بشرية مرئية) مساوية للمعنى (وهو الجوهر غير الزماني المنزَّه), بل دليلا لمعرفته ومكانا لتجليه. فلا يمكن معرفة المعنى في ذاته بل في صورته التي يتخطاها, والتي ليست إلا صورة في الزمان.
شكلت هذه الطريقة موضوع رسالة أدونيس الشاب - التي كتبها عام 1954 للتخرج من الجامعة السورية, وجعل عنوانها <<نظرية <<الهوهو>> بين حسين بن منصور الحلاج والمكزون السنجاري>>(2). وإذا كان الحلاج الذي مات في القرن الرابع الهجري معروفا على نطاق واسع في تاريخ التصوف العام, فإن المكزون السنجاري الذي مات في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي كان أقل شهرة منه, إلا أنه كان من مراجع الطريقة الجنبلانية وأعمدتها وأمرائها, والذي تنحدر شجرة نسب أدونيس نفسه من صلبه, بغض النظر عن أسطورية هذا النسب أو فعليته, والذي هو في منظورنا نسب روحي. وما يهمنا من ذلك كله أن هذه النشأة الصوفية الملائكية المبكرة قد كانت مدخل اهتمام أدونيس بالصوفية العربية, ولعلها شكلت الجذر الدفين لصوفيته التي ستخرج من معطفها الحساسية الصوفية الحديثة في الشعر العربي الحديث. لم تكن صوفية أدونيس صوفية طرائقية أو مذهبية بل صوفية ميتافيزيقية فنية, وبكلام آخر لم تكن صوفية مريد أو مؤمن تقليدي بل صوفية شاعر متوتر -إذا ما استخدمنا لغة ماكس فيبر جزئيا - ما بين أناه الشعرية الصوفية العميقة التي تنتمي إلى أقلية مذهبية إسلامية جبلية مهم شة وبين أناه الفولتيرية التبشيرية والراديكالية.
ربما عبر انتماء أدونيس المبكر إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه أنطون سعادة عام 1933 عن تطلع أناه الفولتيرية إلى تعويض الوضعية الأقلوية المهمشة للمجموعة الثقافية التي ينحدر منها, إلى الاندماج الاجتماعي الأشمل مع بقية المجموعات الثقافية على أساس قومي علماني حديث. فلقد كان هذا الحزب أقرب إلى أخوية قومية نخبوية انتلجنسوية منه إلى حزب سياسي تقليدي. وكان كتاب <<الصراع الفكري في الأدب السوري>> لمؤسسه سعادة صاحب التأثير الأول والأكبر في أدونيس الشاب(3). وإذا لم يكن سعادة هو الذي أطلق على أدونيس هذا اللقب فإن تسمي أدونيس به كان متسقا بشكل تام مع خياره القومي الاجتماعي. ولعل تعلق أدونيس المبكر بسعادة هو ما يفسر استعادته الأسطورية الكاريزمية له في قصيدته <<قالت الأرض>>(4) (كتبها عامي 1949-1950 ونشرها في مجموعة مستقلة عام 1954) التي كانت في رثاء سعادة الذي أعدم في عام 1949 في محاكمة صورية في بيروت, ونلمح في هذه القصيدة معالم تموزية (انبعاثية) أدونيس الأولى التي ستتكامل مع تشكل القصيدة التموزية (الانبعاثية) في الشعر العربي الحديث. كان جبرا إبراهيم جبرا أول من أطلق في دراسة له في مجلة شعر عام 1958 مصطلح <<الشعراء التموزيين>> على كل من أدونيس ويوسف الخال وبدر شاكر السياب وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا, ثم أصدر أسعد رزوق كتابه <<الأسطورة في الشعر المعاصر>>(1959) الذي حلل فيه إنتاج هؤلاء الشعراء, ورأى أنهم يشتركون بتصوير الحاضر <<أرضا خرابا>> ماتت فيها القيم الإنسانية ومعالم الحضارة, ثم يلوحون بقيم جديدة, ويرى الخمسة التموزيون أن بلوغ العالم الجديد الذي يتوقون إليه لا يكون إلا بالموت الذي يعقبه البعث والخصب, أي بعث الإله أدونيس-تموز(5). وإذا كانت قصيدة <<الأرض اليباب>> لإليوت المصدر الأساسي في تموزية السياب وفي قصيدته التموزية <<أنشودة المطر>> (1954) فإن تموزية أدونيس تعود إلى تأثره بكتاب سعادة <<الصراع الفكري في الأدب السوري>> الذي دعا فيه الشعراء السوريين (القوميين) إلى إيجاد موصل <<الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد السوري القومي الاجتماعي>>(6). من هنا رأى أدونيس في عام 1957 أنه <<ليس بين قصيدتي وقصيدة خليل حاوي أي التقاء, وذلك أن القصيدتين تنبعان من مصادر واحدة أطلقها في بلادنا عقائديا أنطون سعادة, وحققها من ناحية استخدام الشعر شعراء في الغرب قبل خليل حاوي وقبلي, فليست مجهولة دعوة أنطون سعادة شعراء بلاده للعودة إلى أساطيرهم واستخدامها في نتاجهم, وذلك في كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري>>(7). بل يقول أدونيس في مقدمة قصيدة <<أرواد يا أميرة الوهم>> <<أعتمد في أسلوب هذه القصيدة كما اعتمدت في قصيدة <<وحده اليأس>> على الأسلوب الشعري القديم في فينيقيا وما بين النهرين .. آمل في استخدام هذا الأسلوب من التعبير الشعري, أن أضع مع زملائي الشعراء الآخرين حجرة صغيرة في الجسر الذي يصلنا بجذورنا وبحاضرنا العالم>>(
. ولا يدع أدونيس أدنى مجال للشك في أنه يستلهم في هاتين القصيدتين دعوة سعادة إلى <<ربط قضايا سورية القديمة بقضاياها الجديدة>>(9), بل إنه يستعيد أسطورة قتال البعل للتنين وملحمة البعل وعناة بشكل مقارب وحتى مطابق أحيانا لكيفية إيراد سعادة لهما في كتابه. غير أن هاتين القصيدتين <<أرواد يا أميرة الوهم>>(10) (نشرها لاحقا تحت عنوان <<مرثية القرن الأول>>) و>>وحده اليأس>>(11) (نشرها لاحقا تحت عنوان <<البعث والرماد>>) لا تستمدان أهميتهما من تعزيز الحساسية التموزية (الانبعاثية) في الشعر العربي الحديث وحسب, بل وأيضا من تمثيلهما المكتمل ل-<<القصيدة الطويلة>> (الرؤيوية أو الإشراقية), ومن خاطهما ما بين إيقاعات الشعر الحر وقصيدة النثر, وبهذا المعنى شكلت هاتان القصيدتان-النصان حلقة مبكرة في التمهيد لقصيدة النثر بوصفها نوعا شعريا مستقلا عن الأنواع الشعرية النثرية الأخرى التي سبقتها, وكشفتا مزايا أدونيس التأسيسية المبكرة في التجديد الإيقاعي العربي وتخطي أشكاله السائدة يومئذ.
ليس مفارقة تبعا لذلك أن يعرف أدونيس في الوسط الثقافي-الشعري بوصفه <<شاعرا قوميا>>. إذ كان محور استقبال قصيدة <<قالت الأرض>> إيديولوجيا -سياسيا وليس شعريا . غير أن هذا الاشتهار سيقود تلقائيا إلى تهميش موقع أدونيس في خريطة التجديد الشعري المتشكلة يومئذ حول الشعر الحر ورهاناتها المفتوحة, والتي كانت محكومة في الخمسينيات باستقطاب إيديولوجي سياسي حاد ما بين القوميين العرب الملتفين حول مجلة <<الآداب>> والماركسيين الملتفين حول مجلة <<الثقافة الوطنية>> والقوميين السوريين الذين لم تكن لهم مجلة أدبية خاصة بهم يومئذ. كانت مجلة <<الآداب>> التي تحولت إلى منبر لتلك الطريقة, وطرحت الن-زاعات الأولى حول ريادتها قد نشرت لأدونيس قصيدة <<الفراغ>>(12) في عام 1954 التي مثلت علامة نسبية في تطوره الشعري, وانطوت على بعض التجديد في شكل الشعر الحر, غير أنه لم يحظ في المقالة التي كتبها الناقد القومي العربي البارز شاكر مصطفى عن <<الشعر والشعراء في سورية>> في العدد الشهير الذي خصصته مجلة <<الآداب>> في عام 1955 للشعر العربي المعاصر إلا بإشارة هامشية مشفوعة بإبراز انتمائه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي(13). كان هذا الحزب محكوما في الخمسينيات بقيادة توتاليتارية ورطته في مآزق سياسية قاتلة, وأدخلته ما يمكننا تسميته بمرحلة <<المحنة الكبرى>> التي تعرض فيها إلى تحطيم تنظيمي وسياسي متكامل في سورية. وقد نال أدونيس الشاب القومي الحيوي حصة قاسية من هذه المحنة, تمثلت بسجنه إبان تأديته الخدمة الإلزامية في الجيش السوري, وكتب تحت وطأتها بعض القصائد مثل <<مجنون بين الموتى>>(14) (1956). وقد أرغمته هذه المحنة على الفرار من سورية إلى بيروت في أواخر ت1/ أكتوبر 1956(15), أي في اليوم نفسه الذي كان مقررا فيه للحزب أن يتصدر ما سمي في سورية ب->>المؤامرة الأمريكية>>, والتي تزامنت ساعة صفرها مع العدوان الثلاثي على مصر. ولربما نلمح بعض ظلال هذه المرحلة في قصيدة <<الصقر>>(16). وفي بيروت حيث أرغم أدونيس الشاعر على الانعزال في المحيط الحزبي الضيق والمطوق, التقى بالشاعر اللبناني يوسف الخال الذي لفتت قصيدة <<الفراغ>> اهتمامه, ونقل هذا اللقاء حياة أدونيس الشاعر من ضفة إلى أخرى(17), إذ سيكون تأسيس مجلة شعر التي ستلعب دورا حاسما في تطور حركة الشعر العربي الحديث برمتها أحد أهم ثمراته.
***
شكلت مجلة شعر مدخل فاعلية أدونيس النظرية-الشعرية في تطور حركة الشعر الحديث. ولقد ساهم بتكوين هذه المجلة وتوجيهها بقدر ما ساهمت بتكوينه, إذ وضعته المجلة منذ عددها الأول في مطلع عام 1957 في صلب حركة الشعر الحديث الناهضة بوصفه <<طاقة شعرية كبيرة>> <<ستجعل منه ليس عنوانا على جيله من الشعراء العرب بل سترفعه إلى مستوى عالمي في عالم الشعر>>(18), وكان نشر مجموعته <<قصائد أولى>> (1957) التي يؤرخ بها أدونيس أولى مجموعاته فاتحة إصداراتها الشعرية>> ويكاد جزء أساسي من فاعلية هذه المجلة في تطور الشعر الحديث أن يكون جزءا من فاعلية أدونيس القطبية فيها, واضطلاعه بدور منظ رها الأساسي. ولعل إضاءة الحيثيات التي تشكلت في إطارها المجلة توضح إلى حد كبير دور أدونيس في تأسيسها واستمرارها, وتستمد هذه الإضاءة أهميتها في منظور التاريخ الأدبي إذا ما عرفنا أن هذه الحيثيات لما تزال حتى اليوم محاطة بالغموض أو بنوع من الصمت, مع أنه بات من المستحيل كتابة تاريخ الشعر العربي الحديث بمعزل عن فاعلية المجلة وإشكالياتها التي تدخلت فيها تلك الحيثيات ذاتها.
تبدأ حكاية المجلة مع عودة الشاعر اللبناني يوسف الخال من نيويورك إلى بيروت في عام 1956, وقيامه باتصالات تستهدف إصدار مجلة شعرية تعيد تأسيس حركة الشعر الحر على أساس مفهوم الخال للشعر الحديث, وتقوم ب->>لب رلة>> الحقل الثقافي-الشعري الحديث الذي تحكمه الإيديولوجيات المتصارعة و<<تحريره>> من سيطرتها, وتضطلع في الشعر العربي الحديث بما اضطلعت به مجلة <<شعر>> التي كان يوجهها إزرا باوند في الشعر الأميركي. كان الخال الذي عرف بديوانه الشعري الأول <<أغاني الحرية>> (1942) عضوا سابقا في الحزب السوري القومي الاجتماعي, وطرده سعادة منه في عام 1948 بسبب نظراته الليبيرالية الشخصانية والوجودية(19), إلا أنه وجد أن الإمكانية الفعلية لمشروعه في المحيط الانتلجنسوي الحيوي للحزب الذي كان يشاركه في الموقف من القومية العربية والماركسية. ومثل سائر الذين تربوا في هذا المحيط يومئذ لم يكن الخال معاديا لفكرة العروبة نفسها لكنه كان معاديا للقومية العربية, غير أن حدة الاستقطاب ما بين القوميين السوريين والقوميين العرب جعلت الحزب كله يبدو وكأنه ضد الانتماء العربي نفسه وليس ضد حركة القومية العربية. كان هذا المحيط متمأسسا في إطار عمدة الثقافة والفنون الجميلة التي مثلت المكتب الثقافي المختص في الحزب. كان الدكتور سامي الخوري عميدا , والشاعر اللبناني هنري حاماتي ناموسه (سكرتيره) والشاعر أدونيس وكيله(20), وبحكم تواري الخوري بسبب صدور حكم عليه بالإعدام كان أدونيس الشاب الذي وصل للتو إلى بيروت هو وجه العمدة. ولعل أدونيس قد استصدر في ضوء لقائه الأول مع الخال <<من العميد الخوري قرارا بإعادة تشكيل الندوة الثقافية في الحزب, وفتحها أمام أعضاء سابقين في الحزب أو من خارجه>>(21). فقد كان الخوري المرتاب بسياسة القيادة المسيطرة للحزب, والتي سيقف لاحقا ضدها, قد رأى يومئذ على الأرجح لم شمل الحزب ومحيطه. وبهذا الشكل عاد الخال إلى المحيط الانتلجنسوي للحزب وإن لم يعد إلى عضويته. ولقد تكون هذا المحيط أساسا بواسطة الحزب وأفكاره إلا أن كل شيء فيه كان يشير إلى أنه في طور التكون باستمرار, وبالتالي كان مفتوحا دون أن يدري بالضرورة على إشكاليات لم يتوقعها مسبقا , ولم تكن إجاباته عنه متسقة. نضجت فكرة المجلة-الحركة التي شكلت حلم الخال ومعنى حياته كلها تبعا لذلك في إطار <<الندوة>>, أي بشكل ما في إطار الحزب, وافترض بها أن تؤم ن مكانا للشعراء <<القوميين>> يقابل منبر القوميين العرب في <<الآداب>> والماركسيين في <<الثقافة الوطنية>>. كان هذان المنبران في سجال يومي حاد, وشكل إصدار المجلة تعقيدا فيه. وبحكم النشأة كان معظم <<العاملين والمساهمين>> في المجلة من أعضاء الحزب(22). إلا أن انفجار أزمة الحزب الشهيرة في عام 1957 دفع الخال وأدونيس إلى الاستقلال بالمجلة كليا عنه(23). وربما إلى ترك أدونيس الحزب نفسه في عام 1958(24). وكي نفهم أدونيس يومئذ فإنه كان حريصا على أن يمثل لقب <<الشاعر القومي>> على طريقته والشاعر إطلاقا في آن واحد. لقد كان لديه بدوره التزامه الذاتي, الذي يبدو فيه الخارج داخلا , ولربما كان نشره لقصيدتي <<أرواد يا أميرة الوهم>> و<<وحده اليأس>> محاولة لإثبات ذلك, ولعله كان يفكر يومئذ بالمحيط القومي الاجتماعي بشكل أساسي. غير أنه كان في هاتين القصيدتين تحديدا قد كف عن أن يكون <<شاعرا قوميا>> بالمعنى الضيق للكلمة الذي شهرته به قصيدة <<قالت الأرض>>. لا ريب أن أزمة الحزب كانت طبقا ذهبيا للخال كي يتحرر من أي ارتهان فوق الشعري نفسه, ولقد شاركه أدونيس الشاعر الشاب في هذه الرؤية, من دون أن يتنكر للحزب, فلقد كانت لأدونيس الشاب طريقته في حل التناقضات, من هنا تطورت فاعلية المجلة منذ البداية في فضاء نخبوي ليبيرالي كان يتسق بشكل كامل مع الطبيعة النخبوية للحداثة نفسها التي تركز وفق أورتيغا إي غاسيت على <<النخبة>> التي اكتسبت وعيا جماليا عاليا وخاصا . لقد كانت المجلة في أصلها مشروعا حزبيا إلا أنها انخلعت للتو عنه وغدت <<مستقلة>>. فلم يكن لها علاقة تمويلية بـ<<المنظمة العالمية لحرية الثقافة>> التي اتضح لاحقا أنها إحدى أجهزة المخابرات المركزية الأميركية, غير أن منطلقاتها في <<لبْرلة>> الحقل الثقافي-الشعري كانت تلتقي على نحو موضوعي ما معها, كما أن الخطاب المتوسطي الخاص فيها قد عر ضها لتهمة العلاقة مع ندوات المتوسطية المحر كة سياسيا وماليا , غير أن المساهمين في المجلة كانت لهم دعاوى مختلفة في هذه المتوسطية التي تتصل بأصولهم القومية-الاجتماعية, ونعني هنا متوسطية السوريين القوميين الاجتماعيين, الذين استخدموا المتوسطية كسلاح إيديولوجي استعلائي ضد الغرب نفسه, ينطلق من أن أصول الغرب نفسه تكمن في سورية. غير أن هذه المتوسطية قادت البعض في تجربة قلقة إلى أن تكون رؤية الحداثة عبر الغرب هي نفسها رؤية الحداثة عبر العودة إلى الأصل. وشكل ذلك قسطا مشتركا من الرؤية بين يوسف الخال وأدونيس الشاب. فلقد كان لأدونيس بحكم نشأته القومية الاجتماعية أسطورته عن الأصل المؤسس للتاريخ, الذي تتكثف جذوره في سورية, فمن هذه الجذور حسب أدونيس تنبع أصول الحضارة برمتها. لقد كان فهم أدونيس للعروبة هنا هو فهم سعادة لها, ليس في ضوء القومية العربية بل في ضوء النظرية القومية-الاجتماعية التي تنطلق من مفهوم المجتمع-الأمة, فيتشكل العالم العربي تبعا لذلك من أربع أمم-مجتمعات هي: الهلال الخصيب ووادي النيل والجزيرة العربية والمغرب العربي. ويشكل الهلال الخصيب الإطار الجغرافي-السياسي للأمة السورية العربية المؤلفة من <<سلالتين مديترانية وآرية>>(25) فليست سورية هنا <<أمة شرقية, وليس لها نفسية شرقية بل هي أمة مديترانية, ولها نفسية التمدن الحديث الذي وضعت قواعده الأساسية في سورية>>(26) وشكلت <<مصدر ثقافة البحر المتوسط>>(27) وأساس مدنيته <<التي شاركها فيها الإغريق فيما بعد>>(28). وبهذا المعنى كانت المجلة متصلة برؤية الحزب الحضارية لتاريخ المنطقة وتتبنى منظومة الأنتروبولوجي بقدر ما كانت مستقلة عنه سياسيا وتنظيميا .
لقد شارك شعراء آخرون مثل الشاعر السوري اللاجئ إلى بيروت نذير العظمة والشاعر اللبناني خليل حاوي بشكل فعال في تأسيس المجلة(29), إلا أن تصميمها المسبق والمتسق كمجلة-حركة يعود فعليا إلى الخال وأدونيس الشاب, اللذين ما لبثا بعد انفصال خليل حاوي المبكر عنها(30) أن شكلا قطبيها الأساسيين. ومن هنا كشف أدونيس عن وعي مسبق بتصميم المجلة كي تكون <<التجسيد الأعمق والأكمل>> للحركة الشعرية الحديثة وقيادتها في <<تحول وتطور خلاقين لا مثيل لهما>>(31) في تاريخ الشعر العربي كله. ولقد عزز بروز أدونيس كمنظ ر أساسي للمجلة-الحركة محدودية كتابات الأعضاء المؤسسين الآخرين حول الموقف الشعري, والتي اقتصر معظمها على مقابلات وتعليقات ووجهات نظر متفرقة(32). إن النقد ليس منفصلاً عن النظرية لأنه يتضمنها بشكل ما, غير أن ذلك لا يغفل الفارق الأساسي ما بين الناقد والمنظِّر الأدبي(33). وفي إطار ما نفهمه اليوم من هذا الفارق كان أدونيس منظِّراً معنياً بتحديد ماهية الشعر الحديث أكثر مما كان معنيا بنقده النصي المباشر <<فقلما يصدر حكما على ما هو موجود, وإنما يحاول في الأغلب أن يتصور كيف يجب أن يكون الشعر, كيف تكون علاقته بالثورة, بالتراث, ما معنى التجديد, ما دور اللغة, كل ذلك في إطار التصور لما يجب أن يكون عليه <<التكامل>> الكلي, من خلال الرفض والتجدد المستمرين(34). وفي منظور أولي كان تنظير أدونيس في المقام الأساسي تنظيرا لتجربته الشعرية المتنوعة والتجريبية نفسها, إلا أن هذا التنظير المكثف بلغة المفاهيم المتسقة والمؤسسة كان في الوقت نفسه صياغة لوعي الحركة الشعرية الحديثة بنفسها التي كانت نظريتها مازالت في طور التكون.
كان قطبا المجلة الخال وأدونيس مختلفين فنيا وفكريا حول قضايا عديدة, وأدى تعقد هذا الخلاف في سياق التعقيدات الأخرى التي واجهت المجلة, ولا سيما مواجهتها الحادة مع مجلة <<الآداب>> إلى انفصال أدونيس عن المجلة عام 1963 وهو ما ساهم بتوقفها في عام 1964. ولعل الخلاف الأبرز ما بين القطبين قد تعقد حول الموقف من قضية اللغة الشعرية. فقد رأى الخال أن العربية-الأم قد تطورت مثل اللغة اللاتينية إلى أربع لغات عربية-دارجة هي لغات: المشرق العربي (أو الهلال الخصيب), والجزيرة العربية, ووادي النيل والمغرب, و<<هذه الوحدات اللغوية الأربع تتصف كل واحدة منها بتراث خاص واستطرادا بلغة خاصة ضمن المجموعة العربية العامة .. تماما مثلما آل إليه أمر اللاتينية التي تفرعت إلى إسبانية وإيطالية وفرنسية وبرتغالية>>(35). من هنا رأى أن المجلة-الحركة قد اصطدمت بـ<<جدار اللغة فإما أن تخترقه أو أن تقع صريعة أمامه. وجدار اللغة هذا هو كونها تكتب ولا تحكى>> وتؤدي إلى الازدواجية بين <<ما نكتب وبين ما نتكلم>>(36). كان هذا الخلاف حول قضية اللغة الدارجة في عمقه خلافا حول مفهوم الهوية, إذ أخذ ينشأ في المجلة ما يمكن تسميته بموقفين تجذيري وحداثوي. وقد مثل أدونيس الموقف الأول, إذ أخذ يرى أنه <<ليست مشكلة التجذير في الشعر حديثة العهد بل هي قديمة ترجع إلى القرن الثامن>>(37) وأن الشاعر العربي <<هو ضمن تراثه ومرتبط به>> لكنه <<ارتباط التقابل والتوازي والتضاد>>(38). وحاول في ضوء جدليته عن التجاوز والاستمرار وتخطي المفهوم التقليدي المغلق للتراث أن ينشر في المجلة مختارات من الشعر العربي (صدرت لاحقا تحت اسم <<ديوان الشعر العربي>>) تطرح الحركة الشعرية الحديثة بـ<<اعتبارها تطورا نابعا من هذا التراث وحلقة من حلقاته>>(39), في حين أخذ الموقف الحداثوي يدعو ضمنيا إلى انفصال هذه الحركة نهائيا عن التراث, ويعتبر الرجوع إليه -في إشارة ضمنية إلى توجهات أدونيس ومختاراته من الشعر العربي- <<مرضا نفسيا بل يمكن القول إنه عدو المعاصرة>>(40) أي الحداثة. وقد عكس الخلاف ما بين الموقفين خلافا أعمق حول مفهوم الهوية التي سبق للمجلة أن اعتبرتها تكثيفا لـ>>الأزمة التي نعانيها شعرا كما نعانيها وجودا>>(41). غير أن هذا الخلاف كان يعكس في الوقت نفسه تبلور موقفين في حركة الشعر الحديث داخل المجلة وخارجها من مسألة تحويل اللغة الشعرية. وهما الموقف الذي يقترب من <<الواقعية اللغوية>> في الحياة اليومية والموقف الذي يبحث عن الشعر في نوع من <<لغة عليا>> (رؤيوية). ولقد سبق لمجلة شعر أن طرحت منذ البيان الأول الذي ألقاه الخال في 27 ك2/ يناير 1957 ضرورة أن تعبر القصيدة الحديثة ب->>كلمات وعبارات حية بين الناس>>(24), وكان هذا الطرح متسقا إلى حد بعيد مع أطروحة إليوت الشائعة في الخمسينيات عن اقتراب لغة الشعر من لغة الكلام الطبيعي الحي, والتي طورها محمد النويهي, ومع اقتراب لغة الشعر الحديث نفسها منذ بواكيرها الأولى في شعر نزار قباني في مطلع الأربعينيات من لغة الحياة اليومية, غير أن الواقعية اللغوية لم تتعد حدود تحويل القاموس الشعري الكلاسيكي والرومانتيكي إلى قاموس جديد يسمح بإدماج مفردات لغة الحياة اليومية في النسيج اللغوي-الشعري الجديد, وبكلام آخر لم تعن هذه الواقعية اللغوية بأي حال من الأحوال التخلي عن اللغة الفصحى إلى اللغة الدارجة. وقد تناغم أدونيس نفسه مع الواقعية اللغوية, وحاول أن يدخل بعض المفردات العامية في السياق الرؤيوي للغته الشعرية العليا, بل واخترق -جريا على ما كان شائعا في محيط الشعر الرمزي- بعض القواعد اللغوية في اللغة الفصحى, مثل إدخاله (يا) على الاسم الموصول في <<يا التي>> أو إدخال (يا) على الاسم المعرف بأل مثل: يالجراح. فالعامية هي التي تستخدم <<أل>> بدلا عن الأسماء الموصولة, كما تدخل (يا) الندائية على ال->>أل>> التي تضطلع بوظيفة الاسم الموصول, إلا أن تناغم أدونيس ظل محدودا للغاية, ولم يهيمن قط على لغته الشعرية. بل إنه حاول في شعره وتنظيره معا أن يضع حدا فاصلا ما بين الواقعية اللغوية وبين اللغة العليا الرؤيوية. ولعل هذا ما يفسر أن أدونيس لم يستطع لاحقا أن يرى في لغة صلاح عبد الصبور التي تحاول استنفاذ طاقات الواقعية اللغوية في الحياة اليومية, إلا لغة بسيطة أو مبسطة تنضوي في إطار القيم السائدة أو تحت اللغة حسب تعبيره, وليس لغة اللغة. ولعل وجها أساسيا من المشكلة قد أثير بمناسبة قصائد محمد الماغوط النثرية التي نشرتها مجلة شعر تحت عنوان <<حزن في ضوء القمر>> (1959), ثم مع قصائد شوقي أبي شقرا <<ماء إلى حصان العائلة>> (1962), إذ أثارت هذه القصائد التي كتبها الماغوط في سجنه في سورية على ورق دخان البيافرا, والتي كانت تشبه شكل الحر في توزيعها الخطي سؤالا عن ماهية قصيدة النثر. وقد بادر أدونيس بوصفه المنظ ر الأساسي للمجلة إلى تحديد هذه الماهية بالاستناد إلى كتاب سوزان برنار <<قصيدة النثر منذ بودلير حتى أيامنا>>. غير أنه حدد هذه الماهية ليس في ضوء قصائد الماغوط نفسها التي اعتبرت ضربا من الشعر الحر وليس من قصيدة النثر, بل في ضوء مفهومه الرؤيوي للشعر الحديث, ورأى أن بنية قصيدة النثر بنية إشراقية أي رؤيوية(43), مما كان لمضاعفاته أثر في انشقاق الماغوط عن المجلة ومهاجمتها بمقال قاس يصف يوسف الخال ب->>تشومبي الشعر الحديث>>(44) مشبها إياه بتشومبي الكونغو الذي خان لومومبا أحد رموز ربيع ثورات التحرر الوطني في الستينيات. لقد حاول أدونيس منذ مقاله التأسيسي <<محاولة في تعريف الشعر الحديث>> (صيف 1959) أن يقف في مواجهة هذه الواقعية اللغوية داخل المجلة وخارجها. بل وحاول في شعره منذ <<أغاني مهيار الدمشقي>> (1961) بشكل خاص, أن يقيم على حد تعبير سلمى الخضراء الجيوسي <<الفاصل الكبير>> في اللغة الشعرية الحديثة بين ما نسميه بـ<<الواقعية اللغوية>> البسيطة و>>اللغة العليا>> المعقدة دلاليا , و<<أن يقف حائلا دون تسرب المحكية والعامية والتبسيط المفرط, كاشفا عن افتتان بالغموض الرفيع, غدا صعب المنال في أيدي كثيرين ممن حاولوا محاكاة طريقته>>(45). ولعل هذا ما يفسر أنه لم ير -لاحقا - في الواقعية اللغوية في شعر صلاح عبد الصبور إلا لغة بسيطة مبسطة تنضوي في إطار القيم السائدة, أو لغة تحت اللغة على حد تعبيره.
لقد كشف هذا <<الفاصل الكبير>> ما بين الواقعية اللغوية واللغة العليا الرؤيوية عن فهمين حديثين مختلفين للشعري, سيؤديان إلى تبلور بنيتين جماليتين- شعريتين مميزتين مازالتا مهيمنتين حتى اليوم على الشعر العربي الحديث, ويمكن تنميطهما بلغة الأمثلة أو النمذجة في بنية ما أسميناه منذ أواسط السبعينيات بالقصيدة الشفوية(46) التي تبحث عن الشعري في الاعتيادي واليومي وتقترب من جماليات نثر الحياة اليومية وتفاصيلها وعوالمها المتناهية في الصغر وبين القصيدة-الرؤيا التي رسَّخ أدونيس منذ أواخر الخمسينيات مصطلحها, وكان من أعظم مؤسسيها شعريا ونظريا في تاريخ الشعر العربي الحديث. إذ وضع أدونيس القصيدة-الرؤيا في مواجهة ما سيعرف لاحقا تحت اسم القصيدة الشفوية والتي كانت معالمها في مجلة شعر تتشكل حول شعر محمد الماغوط وشوقي أبو شقرا, ورأى أنها بأشكالها التي تقوم على <<شعر الوقائع>> أو <<الجزئيات>> أو <<الشعر-الوقائع الصغيرة>> أو <<الشعر الوصف>> <<ضد الشعر بمعناه الجديد>>(47) في حين أن القصيدة-الرؤيا <<ليست بسطا أو عرضا لردود فعل من النفس إزاء العالم, ليست مرآة للانفعال - غضبا كان أو سرورا , فرحا أو حزنا , وإنما هي حركة ومعنى تتوحد فيهما الأشياء والنفس, الواقع والرؤيا>>(48). كانت القصيدة-الرؤيا تطويرا وتمييزا أدونيسيا لنوع <<القصيدة الطويلة>> الذي طرح مفهومه في منتصف الخمسينيات. وقد ارتبط طرح هذا النوع باسم عز الدين إسماعيل الذي ميزه في ضوء هربرت ريد عن نوع القصيدة القصيرة. إن الفرق ما بين هذين النوعين وفق إسماعيل هو فرق في الجوهر أكثر منه في الطول. فالقصيدة القصيرة غنائية بسيطة <<تجسم موقفا عاطفيا مفردا أو بسيطا>> في حين أن القصيدة الطويلة التي رأى فيها إسماعيل <<التعبير أو النوع الشعري البديل>> معقدة شكليا ودلاليا وتقوم على حشد كبير من تلك الأشياء <<الجاهزة>> التي تعيش في واقع الشاعر النفسي, وتتجمع وتتضام ويؤلف بينهما ذلك الخلق الفني الجديد ليخرج منها عملا شعريا ضخما . فأنت تجد فيها الخرافة والأسطورة والرمز كما تجد الحقيقة العلمية, إلى جانب ذلك تجد القصة التاريخية أو المشهد الدرامي أو الواقعة, وبعبارة أخرى تجد فيها الخرافة والحقيقة والقصة والرمز والخبرة الإنسانية والمعرفة .. وهذا كله ينتقل من صورته الأصلية أو من ماضيه ليحتل صورة جديدة ويستقر في حاضر جديد وكأنه قد خلق خلقا آخر. والشعر في القصيدة الطويلة هو ذلك الخلق الأخرس(49). ليست القصيدة الطويلة بهذا المعنى إلا ما سيطوره أدونيس ويميزه تحت اسم القصيدة-الرؤيا أو القصيدة-الكلية المنفتحة على احتمالات <<نصية>> جديدة تتجاوز النوع الأدبي نفسه. إن معالجة مشكلة القصيدتين القصيرة والطويلة لم تكن غائبة عن أدونيس المنظ ر والشاعر في أواخر الخمسينيات والستينيات, غير أنه لم ينشغل نقديا إلا بالقصيدة-الرؤيا (الطويلة)(50). فقد كانت القصيدة القصيرة في الخمسينيات بحكم بنائها البسيط ووضوحها الدلالي الإيصالي المباشر نوعا من <<شعر الأغنية>> أو <<الانفعال>> في فهم أدونيس للشعري. إلا أن أول إشارة له إلى القصيدة القصيرة ستبدر في عام 1996 بمناسبة إصدار طبعة جديدة لأعماله الشعرية, حيث صنف هذه الأعمال في محور ثلاثي هو القصائد القصيرة والقصائد الطويلة والنصوص غير الموزونة. وتختلف هذه <<الأنواع>> الثلاثة ظاهريا أو على مستوى البنية السطحية في حين أنها محكومة عمقيا أو على مستوى البنية العميقة بما يمكن تسميته بالشعر-الرؤيا. فالمفهوم الرؤيوي الحديث للشعر هو هنا النص المول د الذي يحكم <<أنواعه>> الشعرية. إن هربرت ريد الذي كان أول من تأثر الطرح النقدي العربي في الخمسينيات بتمييزه ما بين القصيدة القصيرة والقصيدة الطويلة, يحدد ماهية القصيدة القصيرة في كتابه الشكل في الشعر الحديث على الشكل التالي <<الشكل والمحتوى مندمجان في عملية الخلق الأدبي. عندما يسيطر الشكل على المحتوى (الفكرة أي عندما يمكن حصر المحتوى بدفقة فكرية واحدة واضحة البداية والنهاية, كأن ترى في وحدة بيِّنة). عندها يمكن القول إننا أمام القصيدة القصيرة. في حين عندما يكون المحتوى (الفكرة أو التصور الفكري) معقداً جداً لدرجة أن يلجأ العقل إلى تقسيمه على شكل سلسلة من الوحدات الجزئية, وذلك ليخضعه لترتيب ما من أجل استيعابه في إطار كلي, عندها يمكن القول إننا إزاء ما يسمى بالقصيدة الطويلة>>(51). يمكن القول في ضوء هذا التمييز إن القصيدة القصيرة عند أدونيس لا تختلف عن القصيدة الطويلة في الجوهر بل في الشكل, بل إن سلسلة القصائد القصيرة كما في <<أغاني مهيار الدمشقي>> مثلا ليست إلا إطارا <<مقطَّعا>> لقصيدة رؤيوية طويلة. لكن يمكن القول بلغة كمال خير بك إن القصيدة القصيرة <<المستقلة>> في شعر أدونيس هي أقرب إلى القصيدة الومضة التي تنحصر في بيتين أو ثلاثة والتي يمكن لأدونيس أن يسميها بقصيدة البروق والحدوس في حين أن قصائده ونصوصه الطويلة هي أقرب إلى القصيدة المعقدة البناء(52). ولقد كشف علي الشرع أن البنية الأساسية للقصيدة القصيرة عند أدونيس تقوم على <<التأزم والانفراج>> أي التحفز والتفريغ. وهذه الظاهرة تعني أن البيت الشعري الواحد أو المقطوعة الشعرية غالبا ما تتألف أو تتشكل من تركيبين لغويين, في التركيب الأول يستثير الشاعر توقع القارئ أو تحفزه وفي الثاني يتبع هذا الشعور بالتحفز(53). فالبنية المولِّدة أو العميقة هنا واحدة وهي بنية الشعر-الرؤيا, مع أن هذه البنية تأخذ في القصيدة القصيرة عند أدونيس شكلا <<مكثفا>> في حين تأخذ في قصائده ونصوصه الطويلة شكلا <<ممتدا>>, سواء كانت هذه النصوص موزونة أو نثرية. إذ تتميز هذه النصوص بقدرتها المدهشة على توليد إيقاعات جديدة يصعب فهمها في ضوء المعيار العروضي الكلاسيكي. ويصل ذلك الشكل <<الممتد>> في قصائد ونصوص أدونيس إلى حدود <<النصية>> التي تكسر النوعية الأدبية نفسها, والتي لا شك أن أدونيس منذ أواخر الستينيات هو أول مؤسس لها في الشعر العربي الحديث في إطار ما سماه في مجلة <<مواقف>> بـ<<الكتابة الجديدة>>, وحاول أن يطرحها بشكل جديد في <<الكتاب>>(54) الذي يمثل مرحلة نوعية جديدة في كتابة أدونيس خصوصا وفي الكتابة الشعرية العربية الحديثة عموما .
***
تقع تجارب أدونيس المتنوعة والمختلفة الأشكال تبعا لذلك في فضاء القصيدة-الرؤيا. لقد استعمل الشعر العربي عموما الرؤيا بطريقة أو أخرى, ويمكن تطبيق مفهومها عليه بسهولة, إذ أنها بكل بساطة جانب أساسي في أي استخدام فني <<استعاري>> للغة, ينقلها من دلالة المطابقة Dénotation إلى دلالة الإيحاء Connotation, غير أن أدونيس كان أول من ميز هذا الجانب منظوميا في بنية جمالية-شعرية متسقة إبداعيا ونظريا ومستقلة عن الأنواع الشعرية الأخرى>>. ويكمن هذا التمييز التأسيسي ليس في إبراز أهمية عنصر الرؤيا في الشعر بل في أن الشعر لا يقوم أساسا إلا به, وقد كث ف ذلك أدونيس منذ عام 1959 بقوله إن <<خير ما نعرف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا>>(55). وقد امتلك هذا المفهوم طاقة استكشافية بمعنى أنه كان معنيا بإعادة تأسيس الشعر الحديث وتكوينه على أساس آفاقه. ولا ريب أن كلمة الرؤيا كانت من الكلمات-المفتاحية في مجلة شعر إلا أن أدونيس هو الذي أعطاها صيغتها النظرية المفهومية المتسقة.
أكسب أدونيس مفهوم الرؤيا مغزى متعاليا يتعدى حدود الوسائل التقنية أو حدود الصورة الفنية. ويعود ذلك إلى طرحه الحداثة الشعرية كإشكالية معرفية. من هنا رأى أن <<الشعر الحديث نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم إنه إحساس شامل بحضورنا, وهو دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد, موضع البحث والشك, وهو لذلك يصدر عن حساسية ميتافيزيائية, تحس الأشياء إحساسا عفويا , ليس وفق العلائق المنطقية, بل وفق جوهرها وصميمها اللذين يدركهما التصور. إن الشعر الحديث, من هذه الوجهة هو ميتافيزياء الكيان الإنساني>>(56). يكمن الطرح المعرفي هنا في أنه يرى أن الرؤيا تنتقل معرفة داخلية مباشرة تتخطى المعرفة الفكرية أو الاجتماعية أو السياسية. إن الإدراك الشعري للعالم إدراك حدسي, إذ ليس الحدس إلا الوظيفة المعرفية للرؤيا. من هنا تتميز الرؤيا بطبيعة ميتافيزيائية, ولا يمكن للغة الشعرية فيها إلا أن تكون لغة رؤيوية عليا ترى <<في الكون ما تحجبه عنا الألفة والعادة, أن نكشف وجه العالم المخبوء, أن نكتشف علائق خفية>>(57). إن مفهوم الصورة في البلاغة الكلاسيكية لا يستطيع أن يضيء الصورة الفنية الرؤيوية التي تختلف طبيعتها عن الصورة القديمة, فهذه الصورة بتعبير أدونيس <<صورة تركيبية أو الصورة-الرمز>>(58), إذ تقوض المعايير التقليدية البيانية لعلاقة المناسبة أو التقارب ما بين المشبه والمشبه به, وتطلق نوعا من صورة حلمية منفلتة من الضوابط المنطقية, ومنخلعة نهائيا عن الطرفين التقليديين المشبه والمشبه به إلى أطراف أخرى مفاجئة, وتقيم علاقات جديدة ما بين الأشياء وهو ما نجده مهيمنا على الصورة الشعرية الأدونيسية. من هنا كان أدونيس من أوائل من أنضجوا مفهوم الصورة بمعناها الحديث اليوم كإيحاء Connotation , والذي يختلف عن معناه في البلاغة, ولكن في منظور أفلوطيني محدث معرفيا , وطرح بالتالي إشكاليات العلاقة ما بين الرؤية ونظرية المعرفة واللغة بشكل مركب. ويقترب أدونيس منذ أواخر الخمسينيات مما نفهمه اليوم عن الفرق ما بين وظيفتي المطابقة والإيحاء في اللغة فيرى أن <<لغة الشعر هي اللغة الإشارة في حين أن اللغة العادية هي اللغة الإيضاح. فالشعر الجديد هو بمعنى ما, فن جعل اللغة تقول ما لم تتعلم أن تقوله, ما لا تعرف اللغة العادية أن تنقله هو أحد موضوعات الشعر الجديد. يصبح الشعر في هذه الحالة ثورة اللغة>> و<<صحيح أنه لا وجود لما لا يمكن التعبير عنه, لكن ذلك ليس بفضل وجود اللغة كمفردات بل بفضل وجود الشعر الذي يجعل من اللغة سحرا ينفذ إلى كل شيء>>(59). ومن هنا قلب أدونيس الأصول التعبيرية للصورة العربية نظريا وشعريا بل وحاول في شعره أن يطور استعمالات نحوية خاصة غير مألوفة تقليديا , ويمكن حصرها هنا ب-: تقديم الحال على عاملها تقديما كبيرا , والإتيان بالحال من غير عامل ظاهر, والتأخر بذكر المخاطب, والتأخر بذكر العامل في شبه الجملة, وعطف كلمة متحركة على كلمة القافية الساكنة للوقف, والعطف على الخبر -أو على ما يتعلق به- بعد مجيء المبتدأ المؤخر, وتوالي الجمل من غير أدوات ربط كالعطف وغيره, وتوالي البدل, واستعمال ضمائر تعود إلى مجهول, وتباعد الفعل والفاعل, والفصل بين جواب الشرط وما عطف عليه بشرط آخر, وتوالي أشباه الجمل, والاستغناء عن النقاط والفواصل, .. إلخ(60) وقد تغلغلت هذه الاستعمالات بعمق في اللغة الشعرية الحديثة, إذ تميزت عبقرية أدونيس في أنه استحدثها في إطار متسق مع روح النحو العربي وخصائصه الأساسية.
يمثل الرمز الديناميكي في إطار هذه النظرية الأدونيسية المتسقة للقصيدة-الرؤيا الركن الأساسي في الصورة الفنية أو الصورة-الرمز بتعبير أدونيس. ينجلي مفهوم هذه الصورة الأخيرة عبر تمييز أدونيس بين ما يمكننا تسميته بالرمز التعبيري والرمز الديناميكي. فالرمز التعبيري حتى في شكله الرومانتيكي رمز نازل يفك فيه التمثيل الرمزي نفسه وينحدر إلينا من حقيقة سابقة وعليا في حين أن الرمز الديناميكي يتخطى الفاصل ما بين <<فوق>> (الأفكار) و<<تحت>> (الصعيد المادي)(61). ولا ريب أن امتصاص أدونيس للأسس المعرفية للصورة الرمزية في الشعر الغربي قد لعب دورا في تمييزه المبكر ما بين الرمز التعبيري والرمز الديناميكي, وهو ما جعل أدونيس ينجز المهمة التي افترض بالمدرسة الرمزية العربية في الثلاثينيات والأربعينيات أن تنجزها. إن الرمز الديناميكي أو الصورة-الرمز ليس تعبيرا عن العالم بل تكوينا خالقا له. تشبه حركة تكوينه للعالم الحركة التكوينية الإلهية للعالم بالكلمة أو الفعل Verbe. ويصوغ أدونيس ذلك بقوله <<اللغة في شعرنا العربي القديم لغة تعبير, أعني لغة تكتفي من الواقع ومن العالم بأن تمسهما مسا عابرا رفيقا , ويجهد الشعر الجديد في أن يستبدل لغة التعبير بلغة الخلق. فليس الشاعر الشخص الذي لديه شيء ليعبر عنه. بل الشخص الذي يخلق أشياء بطريقة جديدة>>(62). يكتسب الشاعر هنا الخصائص التكوينية الإسرارية لفعل الخلق, إنه الشاعر-النبي أو الشاعر الكوني. ولعل هذا ما يفسر أن اللغة الشعرية الأدونيسية هي لغة <<ميتامورفوذية>> بالمعنى الأفلوطيني المحدث, أي لغة تحولات داخلية أو تناسخات وتقمصات لانهائية, يكون فيها الشعر <<نوعا من السحر لأنه يهدف إلى أن يجعل ما يفلت من الإدراك العقلي مدركا>>(63), أي جعل اللامرئي مرئيا . يتخطى الشعر تبعا لذلك الواقعية والمثالية إلى نوع من عالم روحي أسمى بالكون. يؤسس أدونيس نظريته لهذه اللغة الشعرية العليا على نظرية معرفية صوفية أشمل. إذ يغدو توحيد هذه اللغة ما بين المحسوس المرئي المعلوم الظاهر وبين المجرد اللامرئي المجهول الباطن أو الخفي نوعا من حل للعلاقة ما بين المعنى (الله أو اللامرئي) والصورة (الإنسان أو المرئي) في النظرية الصوفية العربية-الإسلامية. تنهض الصورة كشفا إشراقيا عن معنى مطلق يتخطاها, وحين تقبض على <<اللامرئي>> أي على المعنى أو <<الله>> أو المطلق أو العالم فإنها تقبض على صورته وليس عليه بحد ذاته فهي (أي الصورة) هو (أي المعنى) وليس هو (أي المعنى) هي (أي الصورة), أو ما تكث فه الصيغة الصوفية العربية-الإسلامية العرفانية: هي هو وليس هو هي. يكون المعنى لانهائيا ومطلقا .
***
لعل هذا ما يفسر إلى حد بعيد أن شعر أدونيس هو شعر صوفي حديث, بمعنى أن المستوى الصوفي الحديث يحكم كل مستوياته الأخرى ويهيمن عليها. ونعني بالصوفية الحديثة هنا موقفا معرفيا من العالم, فإذا ما نزعنا <<المعنى>> عن الدين بمفهومه الطقسي التقليدي فإنه لن يكون سوى العالم, ويكمن جوهر صفة الحديثة في الصوفية الحديثة في هذا الن-زع, إذ تتخطى لغة الاتصال ما بين البشر إلى لغة الاتصال مع العالم, ويعني ذلك إدراك الموقع النسبي للأرض في العالم. بكلام آخر يدرج أدونيس نظريته الصوفية الحديثة في إطار نظرية عامة للثقافة تطرح الشعر ليس بوصفه طريقة تعبير بل بوصفه طريقة معرفة تتخطى <<عقلانية العلم الباردة>> إلى <<حقائق أسمى إنسانيا وأعمق من حقائق العلم>>(64). ويواصل أدونيس هنا مبدئيا ما طرحه منذ مقاله التأسيسي <<محاولة في تعريف الشعر الحديث>> في أواخر الخمسينيات حول الشعر ك->>نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم>>(65), إلا أنه يطور ذلك هنا ضمنيا في ضوء مفاهيم النظرية النقدية في مدرسة فرانكفورت عموما ومفهوم جدل السلب عند أدورنو خصوصا , والذي يتكثف بالنقد الجذري للعقل التماثلي (الهيجلي) والعقل الأداتي (الوضعي). وبهذا المعنى يطور الصوفية بوصفها موقفا معرفيا على أسس حديثة, إذ يغدو الشعر لديه ضرورة أنطولوجية للتحرر من أسر العقل الأداتي المسيطر, الذي جسد سيطرة المفهوم العقلي أو العقلاني للعقل في شكل تقني مؤسساتي سلطوي شامل. من هنا يرى أن الشعر هو <<الطاقة الأولى التي تتيح للإنسان أن يكسر قيود التقنوية الحداثوية وعقلانيتها الآلية, ولئن كانت التقنية العلاقة التي يقيمها الإنسان مع الطبيعة عبر العقلنة العلمية, فإن الشعر هو العلاقة التي يقيمها الإنسان مع الإنسان, أي مع ماهية الخاصة عبر الطبيعة>>(66) و<<يبقي الإنسان مفتوحا فيما وراء الظاهر التقنوي العقلاني, على الغيب-الباطن, على المجهول اللانهائي>> في <<حركة شاملة تتخطى آلية التقدم, التقنوي, الحيادية, وتحتضن المجهول المتحرك>>(67). وهو يميز هذا العقل الجمالي المضاد للعقلين التماثلي والأداتي على أساس صوفي حديث يضرب جذوره في الإشراقية الصوفية-العربية الإسلامية, ويرى أن شعرية الشعر الغربي العظيم المضادة لهذين العقلين <<تتصل بخصائص مشرقية: النبوة, الرؤيا, الحلم, السحر, العجابية, التخييل, اللانهاية, الباطن, أو ماوراء الواقع, الانخطاف, الإشراق, الشطح, الكشف ...>> , ويرى تبعا لذلك أن الحداثة التي تشكل القصيدة-الرؤيا مضمونها الأساسي <<شرقية الينابيع. إنها نوع من شرقنة الغرب>>(68). يحاول في ذلك أن يتخطى مثنوية الغرب/ الشرق الاستشراقية, إلا أنه يقع فريسة منطقها حين يخصص <<الفكر الغربي>> في أفق المادة و>>الفكر الشرقي>> في أفق الخي