الشعر الحديث بين فضاء الخلق وإبداع التلقي
للغة الشعر في خلق الشعر شؤون. إنها تخلق نموذجه ثم تلغيه، ثم تخلق نموذجه ثم تلغيه، ثم تخلق نموذجه ثم تلغيه، ثم تعيده من بعد خلق خلقاً آخر. بل إنها لتفعل به ما تفعل بنفسها. فهي كل يوم هي في شأن، خلقاً لا يكف حدوثاً، وتحولاً عنه إلى غيره لا يكف حصولاً.
1 - اللغة تبدع كائنها
ولقد نعلم أن للشعر لغته ولا يزال على هذا النهج يسير، ونعلم أنه في رحم الصيرورة دنا فتدلى، ثم دنا فتدلى فكان كتابة أخرى. ونعلم، أيضاً، أنه فوادة بها يمتاز من سائر الكلام بياناً. ونعلم، كذلك، أنه مفارقة، وخرق، وكسر معيار. وإذا كان هو كذلك، فبأي نموذج نتنادى، وعلى أي قانون نتقاطر؟!!
ولقراءتنا هذه فرضية تنطلق منها، نوجزها كما يأتي: تخلق لغة الشعر الأشياء ليس على مثال الأشياء، بل على مثال رؤيتها لها أصالةَ صورة، وفرادة إنشاء، ووحدانية تكوين. ورب شيء تبدعه رؤى اللغة الشعرية، فيتخلق أمشاجاً، فصوراً، فكلاماً، فيكون ولا يكون كمثله شيء.
فما هذه اللغة؟ وما هو تصنيفها وترتيبها في إطار اللغة التي يتكلم المتكلم بها؟ وما هذه الكائنات التي تجعلها خلقاً ووجوداً بعد أن لم تكن؟ وكيف تقيم صورها لتدل بها عليها؟
هذه أسئلة ربما يجب أن تجيب هذه الفرضية عليها، ولكن إذا تأملنا، فيمكن أن تعد هذه الفرضية، على نحو من الأنحاء وبشكل نسبي، قيدَ النقد في النظر إلى الشعر، كما تعد أيضاً، وفي الوقت ذاته، قيدَ الشعر في حصوله مولداً، وحدوثه بنية، وصيرورته قرادة. ولقد يجعلنا هذا نرى أنْ لا إبداع إلا حيث يكون الاحتكام واحداً إنْ في النقد وقوانينه، وإنْ في الشعر وخلقه. وهذه، كما هو الرأي فيها، مسألة أساسية وتأسيسية، إذ لا يمكن لأحد أن يستقبل الكلام بوصفه شعراً من غيرها. فالخلق الشعري هو علامة على شعرية الشعر. وإن إحساس القارئ بهذا لهو فاتحة التلقي، حيث تفترع القراءة نصها شهوة، وتذوق عُسَيْلته متعة، وتغط فيه لذةً حتى تصير إلى ما تصير إليه المرأة الربوخ.
ولكي يقوم الكلام على الكلام دليلاً، يجب أن نمتحن الصحة النظرية لما تقدم طرحه. وإننا لنود، تحقيقاً لهذه الغاية أن نقف مع عبارات من الشعر العربي، نستلها من بطون القصائد ونطرحها بوصفها كينونات دالة بنفسها على خلقها فرادة تكوين، وفرادة لغة، وفرادة وجود.
2 - القراءة ومولد النص
النص في مولده إبداع لقراءة يسجلها المكتوب، ويصيرها له مكاناً وسكناً. وإذا كانت القراءةُ في أصل التكوين كثيرة الأصول، فإن النص الذي تبدعه وتسجله الكتابة لها إنما هو على أمثالها يكون. وبهذا، فهو يدل، أيضاً، أنه في أصل التكوين كثيرُ الأصول. وإذا كان ذلك كذلك، فإن هذا يعني أنه لا توجد شرعية حقيقة لأحد في أبوَّة النص، كما لا توجد وصاية فعلية لأحد على النص سوى القراءة التي أبدعته من ظهر نصوص كثيرة، وخلّقته في رحم لغات كثيرة ونصوص كثيرة، حتى وإن كان هذا النص منسوباً في أوراق الثقافة وشهادة الميلاد إلى شخص معين.
ونحن هنا لا نريد أن نقف على قضية «موت المؤلف». فهذه قضية يمكن العودة إليها عند رولان بارت في كتابه الذي ترجمناه له بعنوان: «هسهسة اللغة»(1)، ولكننا نريد أن نقول إن كل نص، أي ثقافة من الثقافات، هو نص ثانٍ لآباء مجهولين تستحضرهم القراءة لحظة إنشائه وتكوينه ولحظة ميلاده وتسجيله، لا بأعيانهم وذواتهم ولكن بنثار آثارهم المبثوثة في كل نصوص الثقافة أو المتداخلة معها والمتحولةبها. ولهذا، فإننا نرى أن النص لا يشكل وجوداً تاريخياً يقرأ من الخارج بوصفه انعكاساً لحدث يصنعه، ولكنه يشكل وجوداً جنيالوجوياً يقرأ من الداخل بوصفه طبقات تكوينيةً داخليةً، وتراكمات غائرةً عميقاً في الزمان. ولقد يؤكد هذا أن النص لا يتوقف في مولده عند لحظة تسجيله تكويناً ونماء وبسطة في الخلق، كما يريد الوجود التاريخي أن يقول مؤكداً هذا التوقف، ولكنه يستمر، إذن، ولادة وإعادة ولادة، حتى بعد تسجيله، كما يريد الوجود الجنيالوجي أن يقول ويؤكد. وهنا يستوي القارئ والكاتب، أو هما يتداخلان فتتغير الصورة في أذهاننا وتنقلب المفاهيم: فالكاتب قارئ، والقارئ كاتب. والنص بينهما وجود لا ينتهي تكويناً ولا يتناهى وجوداً بانتهاء تسجيله، وإنما هو وجود مستمر ولادةً في ذاته أو في غيره، وذلك ما دام هناك، وإلى نهاية الزمان، «قارئ - كاتب» يسجل فيه قراءته الخاصة ومكتوبه الخاص.
ولقد نستنتج، انطلاقاً من هذا، أن الشعر الحديث (بل كل أجناس الأدب الحديث) يؤكد على حقيقتين تحويليتين:
- الأولى، ويتحول فيها النص الشعري من نص ثابت يسجله المكتوب ثم يجعله يسكن فيه، إلى نص متحول تبدعه له القراءة ثم تجعله يتجدد فيه.
- الثانية، ويتحول فيها الكاتب من ذات تنوب عن الخالق في صناعة كل شيء، وإنشاء كل شيء، وخلق كل شيء، إلى ذات قارئة تبدع القراءةُ عبرها اكتشاف الأصول الجنيالوجية لمكونات كثيرة، متناهية وغير متناهية، فتسجلها نصاً ثم تطلقه ليتابع تحولاته عبر قراء جدد لا يحصون عدداً.
إن الكاتب والنص، إذن، كينونتان متغيرتان ومتحولتان. ولقد نعلم أن كل تغير يحمل معه جديداً، كما نعلم أن كل تحول يجعل كل واحد منهما يصبح بتحوله آخر جديداً. والكاتب في علاقته بنصه هو آخرُ متجدد دائماً. وكذلك النص، فهو في علاقته بقارئه هو نص آخر متجدد دائماً.
وهكذا نرى أنه لولا نظريات القراءة الحديثة، بمفاهيمها الجديدة، منهجاً في البحث وأسلوباً في الوجود، لما تحرر الكاتب والنص من أسرهما، ولما غدا الكاتب قارئاً محتملاً بين قراء محتملين كثر، ولما غدا النص قرادة محتملة بين قراءات محتملة كثيرة، ولظلا معاً، الكاتب والنص، في سجن الثبات الأبدي: أبوة، ونحواً، وبلاغة.
3 - تحرر النص
لقد وضعت نظريات القراءة من آيزر، إلى ياويس، إلى بارت، إلى غيرهم أركانها، وأصَّلت مفاهيمها، وأشاعت إجراءاتها، وأنفذت اشتراطاتها في الثقافة العالمية على نحو مباشر وغير مباشر. كما تعززت هذه النظريات بأخرى تفكيكية وتشريحية، حديثة هي الأخرى. فقد جاءت إلى النص، من عالم الفسفة، على يد بعض كبار فلاسفة العصر الذي نحن فيه، من هايدغر، الى دريدا، إلى المتلمسين لهما طريقاً في النقد الأدبي وسبيلاً، من هارولد بلوم، إلى بول دي مان، الى آخرين كثر لامعين في كل أنحاء العالم.
ويمكن الزعم أن كل هذا النشاط قد أفضى إلى تحرر النص من قيده نحواً، ومن وَثَاقة بلغة، ومن أسره ذاتاً. ولم يعد شيء مما كان يحكمه قديماً، يقوى أن يضعه في الأصفاد حديثاً. وهكذا، صرنا نرى، نتيجة لهذا، نصاً فلوتاً على كل صعيد وفي كل الأجناس التي يتوزع عليها. بل صرنا نرى، أيضاً، نصاً تتداخل فيه كل الأجناس، وإن بدرجات متفاوتة، طلباً لضياع الجنس الأدبي، أو لفقدان الهوية، وسعياً وراء ذلك. وما كان هذا هكذا إلا لكي يصير النص، من وجهة أولى، مطلقَ حريته، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولكي يقوى بأساليب الأجناس كلها وأدواتها أن يقول ما لا يقوى أن يقوله لو ظل أسير جنس واحد، من وجهة ثانية. ولعل لنا في قصيدة النثر نموذجاً للنظر ومثالاً للتأمل.
ولكي يكون كلامنا، بعد هذا، عن تحرر النص بيناً في مقصوده، وجلياً في مبتغاه ومنشوده، فقد أردنا أن نقف وقفتين موجزتين: الأولى، ونتكلم فيها عن تحرر النص نحواً. الثانية، ونتكلم فيها عن تحرر النص بلاغة.
أ- تحرر النص نحواً
ومما نجده في النص الحديث أنه نص قد أجاد لعبة التركيب النحوي وأحدث خرقاً في استخدام العلاقات بين الكلمات، فأبطل بعضاً من وظائفها أو حدَّ من فاعليته سعياً وراء الكشف عن دلالات جديدة ما كان يمكنه أن يكشف عنها لو بقي ملازماً للموصفات التقليدية والاشتراطات المعيارية للنحو العربي. ولقد نستطيع أن نضرب لذلك مثلاً واحداً، إذ لا مجال للتوسع، نستله من شعر السياب، وذلك لكي ندل به على هذا التوجه وكيف تنسج لغة النص الحديث علاقة جديدة يقول النص:
أصداؤها الخضراءُ
تنهلُّ في داري
أوراقَ أزهار.
أصداؤها البيضاءُ
يَصْدَعْنَ من حولي جليد الهواءْ.
أصداؤها الحمراءُ
تنهلُّ في داري
شلالَ أنوارِ.
إذا نظرنا إلى الكلمات: «الخضراء، البيضاء، الحمراء»، فسنجد أنها تقع نعتاً بحسب موقعها وتبعاً للتركيب الجملي الذي توجد فيه. وعند التأمل موقعاًَ وتركيباً، سنرى أن ثمة إشكالاً يكتنف العلاقة بين النعت والمنعوت. ولقد يتطلب هذا الإشكال في تفسيره أن نقف وقفتين:
1 - إن النعت في تعريفه المعياري هو «أحد التوابع. أو هو تابع لكلمة قبله يكمِّلُ معناها أو يكمل معنى يرتبط بها». (محمد سعيد إسبر/بلال جنيدي: الشامل. معجم في علوم اللغة العربية وعلومها ومصطلحاتها - دار العودة. بيروت. ص/2/./1985/.ص/973).
ولكي يكون ذلك، أي لكي يكون النعت تابعاً للمنعوت، فيكمل معناه أو يكمل معنى يرتبط به، يجب أن يكون بينهما تناسب دلالي. ولقد يعني هذا أن الاسم «أصداء» يجب أن يكون من الأسماء التي تحمل الإشارة (+ لون) دلالياً. والا يكن ذلك، فإن إعطاءه اللون «أخضر، وأبيض، وأحمر» ونعته به، سيخرجه مما خلق له وجُعِلَ ليكون ميسراً لأمر ليس له معه شأن أو توافق أو انسجام. ذلك لأن كلمة «الصدى - أصداء» في ممكنها الدلالي تأخذ العلامة (+ صوت) أو باتساع (+ نغم + موسيقى). وإذا كان هذا هكذا، فيجب أن تكون النعوب المعطاة لها مشتقة من الأصوات ورجعها وتشبيهها أو من النغمات وارتدادها ومثلها، وليس من الألوان واختلافها. فهي مرة خضراء، ومرة بيضاء، ومرة حمراء. ولقد نعلم أن هذه القطيعة مع المعيار النحوي لإقامة العلاقة بين النعت والمنعوت، أو هذا الكسر في العلاقة القديمة قد فتح الباب واسعاً أمام التركيب الجملي المحدث لينفذ منه ويبني أفاقاً تعبيرية غير مألوفة.
2 - يعود بنا هذا النص، بتركيبه الجملي هذا، إلى اللغة الأولى، عندما كانت عذراءَ بكراً، لم يطمثها بعد إنس ولا وجان، ولم يلوثها استعمال ولا تقنين. فيعيد صياغة قوانينها من جديد ويفتح أمامها باب ممكنات كثيرة، ومنها أن نقول إن مسوغ النعت «خضراء» في الفقرة الأولى ليس التبعية للكلمة «أصداء»، ولكن للانسجام مع ما يأتي، أي مع عبارة «أوراقُ أزهار». وكذلك الحال بالنسبة إلى النعت «بيضاء»: إنه يفك ارتباطه بما قبله ليقيمه مع ما بعده، إذ «البياض» ينسجم لوناً مع «الجليد». والأمر نفسه ينطبق، أخيراً، على النعت «الحمراء»، حيث يمكن أن يكون واحداً من مفردات أو من مكونات «شلالَ أنوار».
وهكذا نرى أن العلاقة النحوية المعيارية للنعت، كما كانت في التركيب الجملي العربي المألوف قد تغيرت، فخرج النعت بهذا من التبعية التي كانت تربطه بما قبله إلى انسجام دلالي يربطه بما بعده.
ب- تحرر النص بلاغة
لقد تغيرت الجماليات في العصر الحديث مظهراً ومخبراً، شكلاً وجوهراً. وبدا أثر ذلك ساطعاً بيناً في كل مناحي الحياة: عمارة وهندسة، موسيقى وأغنية، نحتاً وفناً تشكيلياً، قولاً ورسماً بالكلمات. بل تغبرت الأشكال الجمالية حتى في المصنوعات، بل صارت المصنوعات نفسها، كبيرُها وصغيرُها، أشكالاً جمالية، وحل التذوق الجمالي في التسوق والشراء محل الاستهلاك، وصرنا بسبب هذا نعيش المخيَّل وليس المصوَّر، وتجاوز في الواقعية ما يقوم في الأذهان الذي يقوم في الأعيان بكثير، وانفتح باب الدهشة وأغلق باب العقلنة، وتخطت الأشياء والأقوال التفسير والتأويل بالمعنى ومعنى المعنى، وبالمجاز ومجاز المجاز لتبلغ مواقع صار فيها المطلق مباحاً، واللامحدود متاحاً، والارتحال فيهما سَجَاحاً وفلاحاً. لقد تغير كل شيء جمالياً ولم يعد شيء كما كان.
وإزاء هذا كله، نستطيع أن نقول لقد سقطت البلاغة تشبيهاً، واستعادة، وكناية، وسقط القمر بوصفه معياراً جمالياً وصورة تحاكيها الصبايا الحسن، وسقطت الشمس وسقط معها قول الشاعر:
فانك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وسقط رأس الأصبع الذي يشبه العناب، وسقطت الأسنان التي تحاكي البرد بياضاً (تذكروا: و«عضت على العناب بالبرد»)، وسقطت أشياء كثيرةٌ لتحل محلها أشياء أخرى كالمشط، والسكائر، والليمون، والبغايا على الطرقات، والإسفلت، والوحل، والمدنية، والشوارع، والبعوض، والأظافر، والحبر، والخبز، إلى آخره. بيد أن هذه الأشياء، وغيرها كثير، لم تقم في الشعر الحديث ولا في النص المعاصر على أساس الاستعارة، أو التشبيه، أو الكناية، ولكن على أساس أن هذه كائنات نصية، وأن لها وظائف نحوية، وأخرى دلالية، وثالثة جمالية، كما تؤدي أدواراً شخصية لا تنوب بها عن غيرها، بل هي فيها هي عين فعلها وإنجازها وأدائها، وكذلك عين كينونتها.
ولكي ندلل على ما نقول، ونمهد لما نريد أن نقول، فإننا نحسن صنعاً إذ نسرد مقتطفات ننهشها من دفاتر محمد الماغوط وأوراقه. وهي مقتطفات نستعملها هنا للتدليل لا للتحليل. إنها تقول:
أعطنا امرأة شهية في ضوء القمر
لنبكي
لنسمعَ رحيل الأظافر وأنين الجبال
لنسمعَ صليل البنادق من ثدي امرأةٍ.
ما من أمة في التاريخ
لها هذه العجيزةُ الضاحكة
والعيون المليئة بالأجراس.
وتقول:
لنسرعْ إلى قبورنا وأطفالنا
المجد كلمات من الوحل
والخبزُ طفلةٌ
عاريةٌ بين الرياح
(ص 45)
وتقول:
الزقاقُ الملتوي
كجبلٍ من جثث العبيد
(ص 23)
وتقول:
أتسكع كالضباب المتلاشي
(ص 42)
وتقول:
الغبار الأعمى
(ص 42)
وتقول:
الغابة تبتعد كالرمح
(ص 42)
وتقول:
شعرُك الذي
كان ينبض على وسادتي
كشلال من العصافير
يلهو على وساداتٍ غريبة
يخونني يا ليلى
فلن أشتري له
الأمشاطَ المذهبة بعد الآن.
(ص 32)
وتقول:.
كان أبي، لا يحبني كثيراً،
يضربني على قفاي كالجارية
ويشتمني في السوق
وبين المنازل المتسلخة
كأيدي الفقراء
(ص 32)
هامش
1- أعمال محمد الماغوط. دار المدي. دمشق./998/.ص/45/
منـــذر عيــــــاشي
كاتب وناقد من سورية------------------------ منقول